أقلام حرة

تحقيق المخطوطات .. صناعةٌ استراتيجية

د. أماني فؤاد

بَعد حوار حمَل شجونًا عِدَّة حول عملية تحقيق المخطوطات، في معرض القاهرة ‏للكتاب، ضمن ندوات مركز أبو ظبي للُّغة العربية، أجمَع كل مَن يمارس التحقيق ‏على ضرورة إنشاء مركز علمي بحثي كبير لتحقيق المخطوطات، واقترحتُ أن ‏يكون تابعًا لجامعة الدول العربية، وأن يُخصَّص له ميزانية تليق بالحفاظ على ‏التراث العربي وهُوَيتنا المميَّزة؛ للحفاظ على كل ما أنتجت الثقافة العربية، سواء ‏في التراث المادي المتعيِّن، أو التراث غير المادي، مثل: الأغاني، والأكلات ‏العربية، الأمثال، السِّير والمرويات، كل ما أنتجته العربية، واعتمد على شفاهية ‏الثقافة، وتناقُلها بطريقة غير موثَّقة. ‏
أحسب أننا جميعًا نتفق على أهمية كشْف كنوز التراث العربي، وإدراجها ضمْن ‏نسيجنا الثقافي المتعدد والمتداخِل، وإعادة نشْرها للمعنيين، فمَن لا يعرف أمْسَه؛ ‏لا يتمكن من معرفة يومِه وغَدِه.‏
ويُعد تحقيق المخطوط عملية الاجتهاد والتقصي في جعْل النصوص القديمة بعد ‏اكتشافها وتحقيقها مطابقة لأصلها، كيفما كُتبت قديمًا، مِن حيث الخَط واللفظ ‏والمعنى، وبالتالي فالمخطوط المحقَّق هو الذي صَحَّ عنوانه، واسم مؤلِّفه، ونِسبة ‏الكتاب إليه، وكان مَتْنه أقرب ما يكون إلى الصورة التي تركها مؤلِّفه، وهذا هو ‏هدف عملية التحقيق. وإجمالًا رحلة تحويل المخطوط – من صورته المخطوطة ‏إلى كتاب – عملية شاقة، يتحلَّى باحثها بالمثابرة والدأب والإصرار، هذا عدا ‏صفات علمية كثيرة.‏
ويمكنني وصْفها بالرحلة بالفعل، دون مبالغة؛ رحلة مواجهة تحديات واسعة، تبدأ ‏أولا بالبحث عن المخطوطات، التي وردت حولها إشارة في كُتب أخرى، أو دلائل ‏متناثرة على وجودها، ثم العثور على أحدها، والتأكد منها، ونِسبتها إلى مؤلِّفها ‏الحقيقي، ومضاهاة هذه النسخة بنُسخ المخطوطة الأخرى – إن وُجدت – في أيِّ ‏منطقة من العالَم، وهل حُققت من قبْل أَم لا، ثم ترميمها في حالة تلَفها، كلها أو ‏بعض أجزائها، ثم تحقيقها، مع الوعي بكل خطوات التحقيق والتيقُّن منها، سواء ‏بأساليب التحقيق الكلاسيكية أو الحديثة. ‏
ولقد تعرَّضت الكثير من المؤلَّفات – على مَرِّ التاريخ العربي – للضياع والتلف، ‏نتيجة لأسباب متعدِّدة، منها الغزو والحروب؛ حيث التدمير المتعمَّد للمكتبات ‏والثقافة، والظواهر الطبيعية مثل الفيضانات والزلازل، ومنها السرقات وإرسال هذه ‏المخطوطات للبلدان التي تسطو على مقدِّرات الدول، مثلما فعَل العثمانيون، كما ‏عمليات نهب وسرقة المخطوطات وبيعها، هذا السطو لم يقتصر على ‏المخطوطات فقط، لكنه امتد للآثار المادية المتعيِّنة، مثلما نُسبت المعابد المصرية ‏القديمة – التي شيَّدها الملوك المصريون القدماء – إلى ملوك أحدث، حين اعتلوا ‏السُّلطة؛ فكانوا يمحون الأسماء التي نُحتت على جدران المعابد؛ ليضعوا أسماءهم ‏في عملية سطو معرفي وثقافي واضحة، وفي المخطوطات والكتب تبرُز هذه ‏المغالطات بصورة أكبر بلا شك.‏
الاهتمام بتحقيق المخطوطات هو في الحقيقة مواجهة جادة مع الضياع والتبعثر ‏والشك، واستبدالهم بالوجود والتيقن واستنهاض التاريخ، وإعادة بعْث معارفه ‏وعلومه وثقافاته، أن نستبدل بالجهل والعتمة وانعدام الشعورِ الهُوَيَّةَ الطامحة إلى ‏المعرفة والنور، ومَدِّ الجسور مع التاريخ، والبناء على المُشرِق منه، وثقتنا في ‏قدراتنا على الإنتاج.‏
يقول أبو عمرو بن العلاء: «ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقله، ولو جاءكم ‏وافرًا؛ لجاءكم عِلمٌ وشِعرٌ كثير.» وما ينطبق على الشِّعر يمتد إلى جميع مناحي ‏وفروع المعرفة.‏
أوضح د. مدحت عيسى – مدير مركز المخطوطات بمكتبة الإسكندرية، ورئيس ‏تحرير دورية (علوم المخطوط) – خطوط الاستراتيجية المستقبلية في العناية ‏بالمخطوطات في المكتبة، ووسائلها العلمية المستحدَثة، والتنسيق والتوأمات التي ‏أجْرَتها المكتبة مع مكتبات الدول الغربية المختلفة؛ للاطِّلاع والتعاون والفهرسة، ‏سواء بالنُّسخ الأصلية من المخطوطات، أو صور من النُّسخ الأصلية، وكيف ‏سَعت مكتبة الإسكندرية لهذا التعاون؛ لتذليل الصعوبات على أيِّ محقِّق يَوَدُّ ‏الاطلاع على المخطوط أو صورته، ومضاهاتها بنسخة موجودة في أيِّ مكتبة في ‏العالَم.‏
كما تحدَّث ضيوف الندوة – التي شرُفت بإدارة الحوار فيها – حيث شارَك دكتور: ‏هشام عبد العزيز، الذي شغَل منصب المدير الأسبق لـ”أطلس المأثورات الشعبية” ‏المصرية، وشارَك في مشروع جمْع وتوثيق نصوص السيرة الهلالية، ومشروع ‏‏”وصْف مصر الآن”. ودكتور: نبيل حمدي الشاهد، الذي قام بتحقيق سيرة ‏الإسكندر ذي القرنين، وما جرَى له من العجائب، ونُشر في مركز أبو ظبي للُّغة ‏العربية 2023، تحدَّث الباحثون حول بعض مطالبهم من أجْل ازدهار التحقيق؛ ‏فطالبوا بوجود مؤسسة مهمومة بالفعل بتحديات التحقيق وأهميته، وأمنياتهم بوجود ‏قارئ واعٍ لديه الشغف بالقديم، ويريد التزوُّد من العِلم، وباحثين جادين يمتلكون ‏وِجْهة نظر ورؤية للحياة. وحين سألتُ عن المواصفات التي يجب أن تتوافر ‏لإعداد محقِّق على درجة عالية من العِلم والمهارة؛ أجمعوا على بعض المعطيات ‏التي يتعيَّن توفيرها في المحقِّق، مثل: التمكُّن من علوم اللغة بدرجة جيدة جدًا، ‏وذكروا في هذا الإطار أن كثيرًا من أخطاء المستشرقين وقعت لعدم تمكُّنهم الجيد ‏من اللغة العربية، هذا وإن كان البعض الآخَر مِن المستشرقيين أجاد العربية ‏بصورة فائقة، حتى أنهم كانوا يصوِّبون لطلبة الأزهر أنفسهم، كما حدَث مع رفاعة ‏رافع الطهطاوي. كما نبَّهوا لنقطة مُهمة، أن يكون المحقِّق متخصِّصًا في موضوع ‏الكتاب الذي يحقِّقه؛ وذلك للإحاطة بمعاني المصطلحات، والإلمام بالمحاور ‏الأساسية في موضوع المخطوطة، كما أشاروا إلى ضرورة ثقافة المحقق العامة، ‏التي تمكِّنه من مجموعةِ معارِفَ تُعينه على التحقيق، والإحاطة بكثير من ‏معطيات عالَم التأليف والأدب والثقافة العامة وبعض العلوم. ‏
وطمأن د. مدحت عيسى الحضور بوجود رؤية وخطة لدى مكتبة الإسكندرية ‏لمستقبل التحقيق، وإعداد وتدريب محقِّق ممتاز، وذلك من خلال ندوات دورية، ‏تقوم بها المكتبة لمناقشة وتغطية جوانب مختلفة من عملية التحقيق، وأعطى مثالًا ‏بالتنسيق مع وزارة الآثار على سبيل المثال، وكيف تقام دورات متنوعة ‏الموضوعات، مثل كيفية صياغة مَحاضِر العثور على المخطوطات ووصفها؛ ‏لئلا يتمكن البعض من إحداث بعض التغييرات على الغُلاف مثلًا، ومِن ثم ‏الاستيلاء على المخطوطة الأصلية، أو إخراجها من مصر.‏
وتحدَّث د. هشام عبد العزيز عن إحدى رحلاته مع أحد المخطوطات، والمعاناة ‏التي وجدها ظنًّا منه إنه أول مَن يحقِّقها؛ لعدم توفُّر الفهارس الموضِّحة ‏للمخطوطات، ليكتشف بعد فترة أن هناك مَن سبَقه، ولذا أضاف أننا بحاجة شديدة ‏للفهرسة الجيدة في كل المكتبات، وإتاحة هذه الفهارس للباحثين المحقِّقين، وأنه ‏من المؤسف أن الكثير من مكتباتنا تفتقر لفهارسَ واضحة. وعن أهمية تحقيق ‏المخطوطات واتصالها بهُوَية قومية متماسكة، قال د. هشام إن التحقيق صناعة ‏استراتيجية، مثله مثل صناعة الحديد والصلب؛ أيْ أنه المحافِظ على هيكلة وقوام ‏الشخصية العربية والمصرية، وأساسها المتين.‏
وتناوَل د. نبيل الشاهد طبيعة الثقافة العربية الشفاهية، والوسائل التي تلائم ‏التعامل مع التراث غير المادي، ورحلات البحث، التي يقوم بها الباحثون لتجميع ‏تلك الثقافات، وتدوينها، وأحيانًا التنبية لاندثارها، وخاصة الحِرَف وبعض الأغاني ‏والأمثال، تجميع كل هذا ورصْده وتوثيقه وجمْعه في المجلدات أو وسائط ‏التسجيل.‏
وحين تطرَّق الحوار عن الاستشراق منذ بدأ، والوجهان الذي اتسم بهما: وجْه ‏معرفي إيجابي أسهم في اكتشاف وتحقيق الكثير من المخطوطات، وترسيخ ‏أصول التحقيق، ووجْه آخَر استعماري استحواذي؛ تساءلتُ: هل أثَّر هذا الوجْه ‏الاستعماري في إخفاء أو حجْب بعض المخطوطات، أو الاستهانة ببعضها عالي ‏القيمة، والتغافل عنه؟
فصدَّق الباحثون على أهمية الدور الذي قام به المستشرقون في بعْث الكثير من ‏المخطوطات، والبحث عنها وتحقيقها، لكنهم ذكروا أن المستشرقين الأوربيين ‏طالما اعتمدوا على نُسخ وحيدة من المخطوطات، ولم يتكلَّفوا مشقة البحث عن ‏النُسخ الأخرى للمخطوط. كما أثَّرت قضية الأيديولوجيات المتباينة، وأثَرها على ‏إظهار المخطوطات، أو التعتيم عليها؟ وكنت هنا أشير لأثَر التوجُّهات السياسية ‏والاختلافات بين الدول، التي تعاقَبت على الحُكم، وأيضًا الأديان المختلفة.‏
وعن آثار التقدم العلمي والتكنولجي في تحقيق المخطوطات؛ هل أنقذت تلك ‏الوسائل العلمية الحديثة بعض المخطوطات من التلف، ومن ثم الضياع التام؟ ‏فتحدَّث الباحثون: إنه في مصرَ وبعض البلدان العربية يتم استخدام أحدث وسائل ‏الترميم، حتى إنه تم ترميم بعضها بتقنية النانو، وإنه يتم التنسيق بين مصر وكثير ‏من الدول العربية والإفريقية؛ لفهرسة وترميم المخطوطات لديهم، في مصر؛ ‏لخبرات الباحثين المصريين في هذا المجال. ولذا نعاود المطالبة بإنشاء مركز ‏علمي كبير متخصص في تحقيق المخطوطات، والحفاظ على تراث الثقافة ‏العربية، وكما ذكرتُ سابقًا: أقترح أن يكون تمويله تابعًا لجامعة الدول العربية، ‏حيث يمكن التكامل فيما بين الدول؛ لتتعانق الخبرات لدى البعض، مع الإمكانات ‏المادية لبعض الدول؛ لنحافظ على قوامنا العربي، وحمايته من الاندثار في ‏توجُّهات العولمة، وصناعة الأنماط الواحدة.‏

زر الذهاب إلى الأعلى